الإخلاص لله تعالى وموانعه
السيد سامي خضرا
اشترط الإسلام الإخلاص في سائر أعمال المؤمن ليُؤْجر على عمله وليفوز بالثواب من الله رب العالمين. بل إنَّ أوَّل ما يتعلَّمه المهتدي إلى الإسلام أنَّ نيَّة الوضوءِ والغُسْل والصلاة والصوم والحج، يجب أن تكون خالصةً وقربة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإذا لم تكن كذلك اعتُبر العمل باطلاً فاسد، تجب إعادته، ويُؤْثم صاحبه وقد يفوت وقت العبادة أحيان.
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّه لا ملازمة بين صحة العبادة في الظاهر وقبولها في الواقع، فحتَّى ولو كانت النيَّةُ خالصةً من الرِّياء الظاهري، بحسب ما ذكره الفقهاء إلاَّ أنَّها لا تكون صحيحةً مع الشِّرك الباطني في الواقع، وغير مقبولة لدى اللَّهِ سبحانه.
قال الله تعالى ملكُهُ العزيز: ((وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)).
وقال سبحانه: ((وأقيموا وجوهكم عند كل مسجدٍ وادعوه مخلصين له الدين)).
ورُوي عن مولانا ومقتدانا رسول الله (ص) قولُه: «قال الله تعالى: الإخلاص سِرٌّ من أسراري استودعتُهُ قلبَ مَنْ أحببتُ من عبادي».
تعريفُ الإخلاص:
قال العارف السالك الأنصاري قُدس سرُّه الشريف «الإخلاصُ تصفية العملِ من كل شوب» وقيل عن الإخلاص أنَّه «تنزيه العملِ أن يكونَ لغير الله فيه نصيب».
وقيل «هو أن لا يريدَ عامِلُهُ عليه عوضاً في الدارَيْن».
ونُقل عن الشيخ المحقق محي الدين العربي أنَّه قال «ألا لله الدِّينُ الخالصُ عن شوب الغَيْريَّة والأنانية، لأنَّك لِفَنَائِكَ فيه بالكلية، فلا ذاتَ لك، ولا صفةَ، ولا فِعْلَ، ولا دين، وإلاَّ لَمَا خَلُصَ الدِّينُ بالحقيقة، فلا يكون لله».
الإخلاصُ علامةُ أهل الإيمان:
يُعبِّر الإخلاص عن شدَّة الإيمان وقُوَّة اليقين، وكُلَّما كان حاضراً في العمل كُلَّما كان توفيقُ الله حاضر.
والمؤمن يتميَّز عن غيره في جملة ما يتميَّز، بابتغاء وجه الله تعالى لنيل رضاه، بينما غيره له أهداف شتَّى.
يقول الله تعالى عزُّه، رداً على شبهات اليهود والنصارى: ((ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن لهمخلصون)).
وأمر سبحانه بينَّه(ص) بالعبادة المُخْلِصة كعلامةٍ له ولأُمَّته من بعده، قال: ((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين * ألا لله الدين الخالص)).
وهكذ، فإنَّ أعمال أهلِ الإيمان مرتبطة بنيَّتهم وإخلاصهم وحبِّهم لمعبودهم الخالق جلَّ جلاله، لا يُشْركون في حبِّه أحد، في مقابل عبادة أهل الشِّرْك والعقائد الفاسدة الَّذين يتوجَّهون ويستعينون بمخلوقات يجعلونها لله نظير، والعياذ بالله.
فَمَنْ عظُم عنده وجهُ الله اكتفى به عمَّا في السَّموات والأرض، ورُوي عن النَّبي الخاتم (ص): «اعملْ لوجهٍ واحد يكفيك الوجوه كلَّه».
وحتَّى المؤمنين، تتفاوت درجاتهم بحسب إخلاصهم، وفي النصِّ المبارك الوارد في تنبيه الخواطر: «بالإخلاص تتفاضل مراتب المؤمنين».
وهكذا درجات جنَّات النَّعيم، جعلنا الله تعالى من أهله، يقول مولانا عليُّ بن أبي طالب (ع): «كُلَّما أخلصتَ عمل، بلغتَ من الآخرة أمل».
الإخلاص في العمل أشدُّ منه:
ورد عن أبي عبد الله (ع) في قوله تعالى: ((ليبلوكم أيكم أحسن عملاً))، قال: ليس يعني أكثَرَكُمْ عمل، ولكنْ أصوبكُم عمل، وإنَّما الإصابةُ خشيةُ اللَّهِ، والنيَّةُ الصادقةُ والخَشْيَةُ، ثمَّ قال: الإبقاءُ على العمل، حتَّى يَخْلُصَ أشدُّ من العمل، والعملُ الخالصُ الَّذي لا تريدُ أن يحمِدَكَ عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى، أفضلُ من العمل، ألا وإنَّ النيَّةَ هي العملُ، ثمَّ تلا قولَهُ عزَّ وجلَّ: ((قل كل يعمل على شاكلته))، يعني على نيَّته.
لعلَّ البعض يظنُّ أنَّ الإخلاص مسألةٌ بسيطة يُمكنُ تحصيلها بأدنى جهد، لكنَّ الَّذي يعرف طبيعة النَّفس البشرية وهواها ورغباتها وشهواتها يتلمَّس عظيم المعاناة الَّتي تُصاحب العمل ليكون صافياً خالصاً قربة إلى الله تعالى.
والمؤمن بالغيب هو الأقدر والأجدر لتحصيل هذه الدرجة المعنويَّة العالية.
رُوي عن أمير المؤمنين (ع) قولُه: «تصفية العمل، خيرٌ من العمل».
وعن الإمام الباقر (ع) قوله: «الإبقاء على العمل أشدُّ من العمل».
قال الراوي: وما الإبقاء على العمل؟
قال (ع): «يصل الرَّجل بصِلةٍ، ويُنْفِق نفقةً لله وحده لا شريك له، فتُكتب له سِرّ، ثمَّ يذكرها فتُمْحى فتكتب له علانية، ثمَّ يذكرها فتُمْحى وتُكتب له رياء».
لذلك أراد الإسلام أن يُعلِّم أتباعه الإخلاص الحقيقي فدعاهم ودرَّبهم على عبادة السرِّ، في سائر المجالات، وجعلها أجراً وثواباً أفضل من عبادة العلن.
واشتُهر عن مولانا رسول الله (ص) قوله: «أعظم العبادة أجر، أخفاه».
وفي بحار الأنوار أيض، عن الإمام الصَّادق (ع) قال: «إذا كان يوم القيامة، نظر رضوان خازن الجنَّة إلى قومٍ لم يمرُّوا به، فيقول: مَنْ أنتم؟ ومن أين دخلتم؟! قال: يقولون: إيَّاك عنَّ، فإنَّا قومٌ عبدنا الله سِرّ، فأَدْخَلَنا الله سِرّ».
أيُّها الحبيب، ألا ترى معي أنَّ صلاة علي (ع) تُضاهي ظاهرَ صلاةِ المنافق، في أجزائها وشرائطها وشكلها الخارجي؟!
نعم!!! إلاَّ أنَّ هذا يعرج بعمله إلى الله سبحانه، وذاك يغور في جهنَّم وبئسَ المصير.
إنَّ تقديمَ أهلِ بيت العصمة (ع) رغيفاً أو أقراصاً من الخبز للفقير، بعد تحمُّل جوعِ يومين أو ثلاثة، قد تفعَلُهُ أنت من دون صعوبة ومشقَّة... لكن هيهات لأمثالنا من النيَّة الخالصة الصادقة!!!
فالأشياء ليست بشكلها بل بروحها وقصدها ـ ولقد قالوا في العلوم العقلية، أن شيئيَّة الشيء بصورته لا بمادته، وهذا هو معنى الحديث المشهور «نيَّةُ المؤمنِ خيرٌ من عمله» «ألا وإنَّ النِّيةَ هي العمل» وجميعُ الأعمالِ فانيةٌ في النيَّة، ولا استقلالية له.
إنَّ تخليص الأعمالِ من جميع مراتب الشِّرك والرياء... ينحصر في إصلاحِ النَّفس، وإلاَّ يبقى الإنسانُ يعيشُ في البيت المظلم للنفس، ولا يكون مسافراً إلى الله تعالى، بل يبقى مُخلَّداً في الأرض.
آثار الإخلاص الغَيْبيَّة:
لا شك أنَّ للإخلاص كما لسائر الأعمال الخيِّرة والعبادات الجليلة الَّتِي أُمرنا بها آثاراً قد نرى أن نشعر ببعضه، لكنْ لا شك ما خفي علينا أعظم وأجلَّ.
وقد ورد في حقِّ الإخلاص ما يُبْهر العقول من أمور لا نملِكُ لها تفسيراً إلاَّ أنَّها رحمةٌ من الله العزيز الجبَّار، ولا يُمكن تفسير مثل هذه البركات بموازين العقل والمنطق السائدين عند أهل الدُّنْي.
فبعد المراقبة الشديدة، يَثْبت المرء على الإخلاص ليوم أو يومين... أمَّا مَنْ وُفِّق لأكثر من ذلك فسوف يرزقه الله رزقاً لا يوزن بذهب ولا بفضة.
ورد عن سَيِّدنا المصطفى (ص): «ما أخلص عبدٌ لله عزَّ وجلَّ أربعين صباحاً إلاَّ جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».
وفي تسديد الله عزَّ وجلَّ للمؤمن المخلص، رُوي عنه (ص): «قال الله عزَّ وجَلَّ: لا أطَّلع على قلبِ عبدٍ، فأعلم منه حبَّ الإخلاص لطَّاعتي لوجهي، وابتغاء مرضاتي إلاَّ تولَّيْتُ تقويمه وسياسته».
قصَّة للعبرة والاقتداء:
في سياق قصَّة موسى وشعيب، على نبيِّنا وآله وعليهما السلام، ورد:
... فلَّما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء مهيَّ، فقال له شعيب: اجلسْ يا شاب فتعشَّ، فقال له موسى: أعوذ بالله، قال شُعيب: ولِمَ ذاك، أَلَسْتَ جائع؟!
قال: بلى، ولكنْ أخاف أن يكون هذا عوضاً لِمَا سقيتُ لهم، وإنَّا أهلَ بيتٍ لا نبيع شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهب، فقال له شعيب: لا والله يا شاب، ولكنَّها عادتي وعادة آبائي نقري الضَّيْف ونُطعم الطعام. قال: فجلس موسى يأكل.
* * *
ومضات: الإخلاص هو تصفية العمل من كل شَوْب، فلا يَعْتبر عمله من كَسْبه، فكيف يطلب عليه ثواب، بل هو محض موهبة أجراها الله جلَّ جلاله على يديه، وهو العبد الَّذي لا حول له ولا قوَّة إلاَّ بربِّه تبارك وتعالى.
* * *
نصوص مباركة تتعلَّق بالموضوع
قال الله تعالى: * ((إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجراً عظيماً)) (سورة النِّساء: 146).
((قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين)) (سورة الزُّمر: 11).
وفي حقِّ سَيِّدنا يوسف، على نبيِّنا وآله وعليه السلام، قال تعالى: ((كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين)) (سورة يوسف: 24).
وعن رسول الله (ص): «ليست الصلاةُ قيامك وقعودك، إنَّما الصلاة إخلاصك وأنْ تريد بها وجهَ الله».
وعن مولانا أمير المؤمنين (ع) قوله: «الإخلاص غاية الدِّين». «الإخلاص أعلى الإيمان».
وعن مولانا الحسن العسكري (ع): «لو جُعلتْ الدُّنيا كلُّها لقمةً واحدةً، ولقَّمْتُها مَنْ يعبد الله خالص، لرأيتُ أنِّي مُقصِّرٌ في حقِّه».