الصيام دورة تدريبية في الأخلاق
بقلم: محمد مصطفى ناصيف
يحرص المسؤولون في الدول المتحضرة عادة على عقد دورات تدريبية لجماعات كثيرة من المواطنين الذين يعنون بالقيام بمتطلبات المجتمع الذي يعيشون فيه من: زراعة، وصناعة، وتربية وتعليم، وحفظ أمن، وغيرها، حيث إنّ التنبّه لعقد مثل هذه الدورات من معطيات الحضارة الحديثة.
والشريعة الإسلامية جاءت بمنهج كامل للحياة، وبنظام تام متكامل لكل متطلباتها، وأوضحت معالم هذا الطريق وذلك الاتجاه قبل مئات السنين مما يزعمون، فهذا شهر رمضان الذي فرض الله صيامه على المسلمين المكلفين في كل عام لمصلحة الصائمين أنفسهم، لأنّ الله هو الغني المطلق عن أي شيء وعن كل شيء سبحانه وتعالى، وما شهر رمضان في حقيقته إلا دورة تدريبية للمؤمن، لكن ليست على فن التدريس مثلاً لأنّه ليس خاصاً بالمدرسين، ولا على فنون القتال أيضاً؛ لأنّه ليس خاصاً بالجنود وأفراد القوات المسلحة، ولا على أساليب التجارة والصناعة والزراعة كذلك، لأنّه ليس خاصاً بالتجار والصناع والزراع.
إنّه دورة تدريبية على متطلبات الحياة الضرورية عموماً، وهو دورة تدريبية للإنسان بموجب صفته الإنسانية على ما تتطلبه وتحتاجه هذه الصنعة من أعمال وعلوم.. ومتطلبات كثيرة.
لقد أقام الله هذه الدورة ونظّم لها من البرامج ما يجعلها تستوفي كل حاجات الإنسان في الحياة لا تنقص فيها واحدة، وبأيسر الطرق وأقلها تكلفة؛ ما يجعلها مفتوحة أمام جميع الناس غنيّهم وفقيرهم، نسيبهم وحقيرهم على حد سواء.
ففي الصوم تدريب على الصبر.. وما أحوج الإنسان إلى الصبر في هذه الحياة، من صبر على تأمين الرزق، وصبر على تحمل الأذى واحتمال الصدمات الحياتية ومصائبها دون أن تخور الهمة أو تثنى العزيمة.. وأي شيء غير الصيام يصلح مدرّباً على الصبر؛ حيث مشاق الحياة وهمومها ومعضلاتها، فإن صبر الإنسان على ترك طعامه وشرابه طيلة يوم وقد يمتد أحياناً إلى خمس عشرة ساعة والطعام بين يديه، ونظره يقع عليه.. عندها يكون على صبر أذى الجار عند قدرته عليه أصبر، وعلى تحمل أذى الصديق أكثر صبراً؛ لأن شهوة البطن من أشد الشهوات الإنسانية قوة وعناداً إذا ما استثيرت أو هُيّجت.
وفي الصيام تدريب على اتباع النظام.. حيث إنّ المسلم يقوم به في لحظة معينة لا يجوز تأخيره عنها ولو لثانية واحدة، كما أن عليه أن يفطر في لحظة معينة أيضاً، ولا يجوز تأخيره دفعاً للمشقة الزائدة عن نفسه على وجه الأفضلية، فما أحوجنا إلى هذا النظام في حياتنا تنظيماً لمواعيدنا وفي دراستنا ورياضة جسمنا، فحين يصوم المؤمن حقاً ويفهم معنى هذا الصيام.. عندها يكون على الالتزام بالمواعيد والصدق أقدر دون شك.
وفي الصيام أيضاً تهذيب للضمير، وتربية للعواطف الإنسانية النبيلة، وتعويد على مكارم الأخلاق وتصفية للنفوس، وتجميد للميول.. فبالصيام تضعف الحيوانية في الإنسان وتتألق الإنسانية؛ حيث يرجع – في هذا الشهر الكريم – من شذّوا عن الطريق السوية إلى بارئهم، ويتوبون توبة نابعة من ضمير ربّاه الصوم، وإحساس أرهفه الجوع في سبيل الله..
فكم من مرتكب للصغيرة والكبيرة تركها في رمضان بفضل تربية الصيام ومراميه، وفي الصيام دروس في التربية الصحية لا يستطيع غيره تأديتها، وقد عرف الطب الحديث الصيام علاجاً ووقاية لكثير من الأمراض المستعصية، بل قرّر كثير من الأطباء أنّ الصوم هو الدواء الوحيد لبعض الأمراض المزمنة أيضاً.. وهكذا نجد أنّ الصوم فعلاً دورة تدريبية في الأخلاق يتخرج منها الصائمون بتفوق ونجاح.