التوبـــة
بقلم: الشيخ حسن عبدالله العجمي
لقد خلق اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ وأودع فيه مجموعةً من الغرائزِ والشهواتِ، فهو بسبب هذه الشهواتِ والغرائزِ ووسوسةِ الشيطانِ له عرضةٌ في هذه الحياة الدنيا للوقوعِ في الخطأِ وارتكابِ الذنوبِ والآثامِ، وبمقدارِ ما يرتكبُ من ذلك يبتعدُ عن ساحةِ القربِ الإلهي ويعيشُ الشقاءَ في الدنيا والعذابَ الأليم في الآخرة.. واللهُ سبحانه وتعالى من عظيمِ فضلِهِ على عبادِهِ ومن جميلِ لطفهِ بهم ومن واسعِ رحمتهِ عليهم فتح لهم بابَ التوبةِ وخاطبهم بألطفِ خطابٍ فقال عزّ من قائل: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فاللهُ سبحانه وتعالى يطلبُ في هذه الآيةِ الكريمةِ من نبيّهِ الأكرمِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلّم أن يخاطبَ العصاةَ والمذنبينَ الذين تعدوا على حدودِ اللهِ عزّ وجل وأسرفوا على أنفسهم بارتكابِ المعاصي والآثامِ، ويقول لهم أن لا ييأسوا من غفرانِ اللهِ وفضلهِ ورحمتهِ فإنهُ يغفرُ الذنوبَ جميعاً لمن جاءه سبحانه نادماً تائباً إليه منها مهما عظمت هذه الذنوب أو كثرت.. وبما أنّه يخفى على الإنسانِ وقتُ موتهِ وساعةُ رحيله من هذه الحياةِ الدنيا فعلية أن يسارع إلى التوبةِ والإنابةِ إلى الله سبحانه وتعالى والرجوعِ إلى خطِّ الطاعةِ والاستقامةِ، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) ففي بدايةِ هذه الآيةِ المباركةِ يدعو اللهُ سبحانه وتعالى عبادَه إلى المبادرةِ إلى فعلِ ما هو سببٌ إلى مغفرتِهِ عزّ وجل، وهو الإقلاعُ عن فعلِ المعاصي والتوبةُ منها، فهو سبحانه قد وعدَ التائبين بمغفرةِ ذنوبِهم فقال : ( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ)، فالله سبحانه وتعالى أعطى التائبين ثلاثَ خصالٍ، لو أعطى خَصْلَةً واحدةً منها جميعَ أهلِ السماواتِ والأرضِ لنجوا بها، وهي: الأولى: أن اللهَ يحبهم، قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُـحِـبُّ الـتَّـــوَّابِـيـــنَ وَيُـحِــبُّ الْـمُـتَـطَـهِّـرِيـنَ)، ومن أحبّه اللهُ لم يعذّبه، والثانية: أن اللهَ سبحانه وتعالى يُوظفُ من الملائكةِ من يستغفرُ لهم، قال عزّ من قائل: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ*رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، والثالثة: أنه سبحانه يبدّلُ سيئاتِهم حسنات، قال سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً).
يتصوّرُ البعضُ من الناسِ من البسطاءِ وغيرِ المتعمقين في فلسفةِ التشريعاتِ الإلهيةِ أنّ تشريعَ التوبةِ والدعوةَ إليها هو نوعٌ من الإغراءِ بارتكابِ المعاصي، وتشجيعٌ على ترك الطاعة، وهذا تصورٌ باطلٌ وغيرُ صحيح، فإنّه لو كان بابُ التوبةِ موصداً مغلقاً في وجه العصاةِ، واعتقدَ المجرمُ بأنّ عصيانَهُ لمرةٍ واحدةٍ يدخلُهُ في عذابِ اللهِ، وأنّه لا يمكن أنْ يدفعَ عن نفسِهِ العذابَ من معصيتِهِ تلك، فلا شك أنّه سيتمادى في اقترافِ السيئاتِ وارتكابِ الذنوبِ، معتقداً بأنّه لو غيّرَ حاله إلى الأحسنِ لما كان له تأثيرٌ في تغييرِ مصيرِهِ، فلأيّ وجهٍ يترك لذّةَ المحرماتِ فيما يأتي من أيامِ عمرِهِ. وهذا بخلافِ ما لو اعتقدَ بأن الطريقَ أمامهُ مفتوحٌ، وأنّه لو استغفرَ اللهَ من ذنوبهِ وتابَ إليه توبةً نصوحاً ينقذُ نفسَهُ من عذابِ الله وغضبِهِ، فإن هذا الاعتقادَ يعطيه الأملَ برحمةِ الله تعالى، فيكفُّ عن العصيانِ في مستقبل أيامِه.
فكم وكم من أشخاصٍ عادوا إلى الصلاح بعد الفساد في ظل الاعتقاد بالتوبة، فإنّهم لولا ذلك الاعتقاد لأمضوا عمرَهم في المعاصي بدلَ الطاعات.
وقال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً*وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) فيستفاد من هذه الآيةِ الكريمةِ أنّ قبولَ اللهِ لتوبةِ عبادهِ مشروطٌ بأن لا يتوب المذنبُ عندما يرى علائمَ الموتِ قد أحاطت به، يقول تعالى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ) أي ولا توبة للذين يذنبون ويسوّفون التوبةَ إلى أن يروا علائمَ الموتِ قد أحاطت بهم، فإنّها توبةُ المضطر الذي يريدُ الخلاصَ من العقابِ الإلهي، لا أنّها توبةُ النادمِ العائدِ إلى ربّه اختياراً، أمّا الذين يتوبون إلى الله تعالى (مِن قَرِيبٍ) أي: قبل أن يرووا علائمَ الموتِ فإنّ توبةَ هؤلاء مقبولةٌ لأنّهم أنابوا إلى اللهِ تعالى مخلصين نادمين قبل أن تتبين لهم سكراتُ الموت، وقبل أن يحسوا بأنّهم على أعتابه، فهؤلاء صادقون في توبتهم مخلصون في إنابتهم.